سَأرحلٌ إليكَ ....أشتَري وُدّ الريّح .....
أرتَقٌ أشرعةَ الزّمَن الهَارب ...
بأعجَاز ... حُلم
وبقايا أمَل ...
أضمّدُ كُسُور ذَاكرَتي ...
أمنَحُ زَادي للشّمس ....
وأعبُر المَضيق ...
سلوى البناني
تسعى هذه الومضة التعبيرية التي اشتغلتها سلوى بناني بوعي رمزي إلى استفزاز الحيز (الضيق) / الفضاء (المفتوح) المتمظهر بين (الرحيل) و (العبور) ، مما جعل الكتابة تمارس تداعياتها بكل يقينياتها الحينية بواسطة الأفعال المضارعة ( ارحلُ، اشتري، أرتّقُ، أضمّدُ، أمنحُ، أعبرُ) على الرغم من حرف السين (س) الذي كما هو متعارف عليه حرف يفيد المستقبل، وقد حرصت سلوى على هذا التحقيب الممتد من الراهن القريب والقابل للزوال إلى المستقبل الآتي على أمل التجاوز والمغادرة ، في حدث ترويه بضمير المتكلم (أنا) في تتابع زمني تجاوز الماضي والإحالة إليه ليدخل الزمن الآتي بكل ما في إبدالاته المدهشة من رؤيا ومن بريق استشراف . (سأرحلُ) بهذا الفعل اليقيني تحاول سلوى الاشتغال في استهلالها الكتابي بقوة لتضعنا أمام الحالة/ الموقف.
ويبدو لي لو أن سلوى وضعت عدة نقط وراء كلمة (سأرحل) لأصبح استهلالا صادما ويحتاج إلى جواب، وسيدفعنا هذا الاستهلال بالتأكيد إلى تخمين المكان الذي ترحل إليه، ولكن يبدو أن التتابع الشعري توافق مع التتابع الحدثي ، وبسببه ساعدت الشاعرة القارئ بيسر من الوصول إلى المكان الذي حددته (سأرحل إليك) .
نعم سيتحقق الرحيل، ثم ماذا بعد الرحيل؟ يتتابع الحدث القصصي المروي بضمير الـ(أنا) في افتضاض السكون الذي يستدعي القارئ جراء التشكيل البصري بواسطة النقط الأربع بين الجملتين (سأرحل إليك .... أشتري ودّ الريح).
وهنا تبدأ الكلمات القاموسية في تجاوز منطقة السكون، لتغادرها نحو منطقة الحراك التعبيري، عندها يفرض السياق الشعري وجودها الانزياحي أن جاز التعبير في المخيال الشعري، فتتجلى في تلك اللحظة المسافة الجمالية في شعرية عالية، وإلا لماذا جعلت الشاعرة للريح (ودّ) وبذلك أنسنة الريح وجعلته يمارس أفعاله الإنسانية بتعبير يتوسل بالتحريض والإثارة والتشعير للوصول إلى التدليل؟ .
ولا تكتفي بذلك، بل تجسد مفهوم الزمن وتجعل له أشرعة، فضلا عن ممارسة الهروب التي تأخذ مدياتها التأويلية المفتوحة ((أرتَقٌ أشرعةَ الزّمَن الهَارب)) ولا يتم هذا الفعل الشعري إلا (( بأعجَاز حُلم وبقايا أمَل )).
وتستمر الشاعرة في خلق الفجوات: مسافات التوتر بتعبير الناقد كمال أبو ديب فتجسد مفهوم الذاكرة وتجعل له كسورا ((أضمّدُ كُسُور ذَاكرَتي)) وحين تتحقق هذه الأفعال جميعها، تتصور أنها وصلت إلى نهاية المطاف لذا ستمنح زادها للشمس ((أمنَحُ زَادي للشّمس )) وما أدراك ما الزاد؟ وما أدراك ما الشمس؟ فكل كلمة تحمل في سياقها الشعري ما لانهاية من التأويلات التي تتجدد في كل قراءة.
وتبلغ بذلك غايتها القصوى التي من اجلها رحلت ((وأعبرُ المضيق)) ، وهنا تصل الشاعرة إلى مرحلة الخلاص وهي تتجاوز العقبات من خلال الصور الشعرية المنفردة، التي تشكل بمجموعها الصورة الكلية للنص. وأقول في نهاية مقاربتي لهذا النص المكثف جدا، والمحير جدا ( قصة قصيرة جدا، قصيدة نثر، أقصودة) أن سلوى البناني تجازوت نصوصها السابقة ووضعت بصماتها الشعرية الجديدة في منطقة المغادرة التي ينشدها كل شاعر متفرد ..
الناقد والشاعر العراقي الدكتور جاسم خلف الياس
https://www.facebook.com/#!/photo.php?fbid=268265003205812&set=p.268265003205812&type=1&theater